الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: أما الحسين فلم يحمل رأسه إلى مصر باتفاق العلماء، وكذلك لم يحمل إلى الشام. ومن قال: إن ميتا من الموتي ـ نفيسة أو غيرها ـ تجير الخائف، وتخلص المحبوس، وهي باب الحوائج، فهو ضال مشرك. فإن اللّه ـ سبحانه ـ هو الذي يجير ولا يجار عليه، وباب الحوائج إلى اللّه هو دعاؤه بصدق وإخلاص، كما قال تعإلى:
وأما [بنت يزيد بن السكن] فهذه توفيت بالشام فهذه قبرها محتمل. وأما [قبر بلال] فممكن؛ فإنه دفن بباب الصغير بدمشق، فيعلم أنه دفن هناك. وأما القطع بتعيين قبره ففيه نظر؛ فإنه يقال: إن تلك القبور حرثت. ومنها: القبر المضاف إلى [أويس القرني] غربي دمشق؛ فإن أويسا لم يجئ إلى الشام، وإنما ذهب إلى العراق. ومنها: القبر المضاف إلى هود عليه السلام بجامع دمشق كذب باتفاق أهل العلم؛ فإن هوداً لم يجئ إلى الشام، بل بعث بإلىمن، وهاجر إلى مكة. فقيل: إنه مات بإلىمن. وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاء قبر معاوية بن أبي سفيان، وأما الذي خارج باب الصغير الذي يقال: إنه قبر معاوية، فإنما هو معاوية بن يزيد بن معاوية الذي تولي الخلافة مدة قصيرة ثم مات ولم يعهد إلى أحد. وكان فيه دين وصلاح. /ومنها: قبر خالد بحمص. يقال: إنه قبر خالد بن يزيد بن معاوية أخو معاوية هذا، ولكن لما اشتهر أنه خالد، والمشهور عند العامة خالد بن الوليد؛ ظنوا أنه خالد بن الوليد، وقد اختلف في ذلك هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد. وذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب أن خالد بن الوليد توفي بحمص. وقيل: بالمدينة، سنة إحدي وعشرين أو اثنين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصي إلى عمر، واللّه أعلم. ومنها: [قبر أبي مسلم الخولاني] الذي بداريا، اختلف فيه. ومنها: [قبر علي بن الحسين] الذي بمصر، فإنه كذب قطعاً. فإن على بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناس، ودفن بالبقيع. ومنها: مشهد الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في قتل الحسين اتفقوا على أن الرأس ليس بمصر، ويعلمون أن هذا كذب. وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان، وذاك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة في أواخر المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين بنحو من خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو ثلاثمائة عام. قد بين كذب هذا المشهد ابن دحية في [العلم المشهور]، وأن الرأس دفن بالمدينة، كما ذكره الزبير بن بكار. والذي صح من أمر حمل الرأس ما ذكره البخاري في صحيحه: أنه حمل إلى عبيد اللّه بن زياد، وجعل /ينكت بالقضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك. وفي رواية: أبو برزة الأسلمي، وكلاهما كان بالعراق، وقد ورد بإسناد منقطع أو مجهول: أنه حمل إلى يزيد. وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرا وأنكر هذا. وهذا كذب؛ فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد وإنما كان بالعراق. وأما بدن الحسين فبكربلاء بالاتفاق. قال أبو العباس: وقد حدثني الثقات ـ طائفة عن ابن دقيق العيد، وطائفة عن أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، وطائفة عن أبي بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني، وطائفة عن أبي عبد اللّه القرطبي صاحب التفسير، كل هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه، وحدثني عن بعضهم عدد كثير كل حدثني عمن حدثه من هؤلاء ـ أنه كان ينكر أمر هذا المشهد، ويقول: إنه كذب، وأنه ليس فيه قبر الحسين ولا شيء منه، والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال: إنما فيه نصراني. ومنها: قبر على رضي اللّه عنه الذي بباطن النجف؛ فإن المعروف عند أهل العلم أن علىا دفن بقصر الإمارة بالكوفة، كما دفن معاوية بقصر الإمارة من الشام، ودفن عمرو بقصر الإمارة؛ خوفا عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم، ولكن قيل: إن الذي بالنجف قبر المغيرة /بن شعبة، ولم يكن أحد يذكر أنه قبر على، ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة. ومنها : قبر عبد اللّه بن عمر في الجزيرة، والناس متفقون على أن عبد اللّه بن عمر مات بمكة عام قتل ابن الزبير، وأوصي أن يدفن بالحل؛ لكونه من المهاجرين، فشق ذلك عليهم فدفنوه بأعلى مكة. ومنها قبر جابر الذي بظاهر حران، والناس متفقون على أن جابرا توفي بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها. ومنها قبر ينسب إلى أم كلثوم ورقيـة بالشام، وقد اتفـق الناس على أنهما مـاتتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينـة تحت عثمان، وهـذا إنما هـو سبب اشتراك الأسـماء؛ لعـل شخصاً يسمي باسم من ذكر توفي ودفن في موضع من المواضع المذكورة، فظن بعض الجهال أنه أحد من الصحابة.
/ فأجاب: لا يشرع لأحـد أن يذبح الأضحية ولا غيرهـا عند القبور ، بل ولا يشرع شيء مـن العبادات الأصلية كالصلاة والصيام والصدقة عند القبور، فمن ظن أن التضحية عند القبور مستحبة، وأنها أفضل، فهو جاهل ضال مخالف لإجماع المسلمين، بل قد نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن العقر عند القبر، كما كان يفعل بعض أهل الجاهلية إذا مات لهم كبير ذبحوا عند قبره . والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتخذ القبور مساجد، فلعن الذين يفعلون ذلك؛ تحذيرا لأمته أن تتشبه بالمشركين الذين يعظمون القبور حتى عبدوهم ، فكيف يتخذ القبر منسكا يقصد النسك فيه ؟! فإن هذا ـ أيضا ـ من التشبه بالمشركين . وقد قال الخليل ـ صلاة اللّه وسلامه عليه ـ: فيجب الإخلاص والصلاة والنسك للّه ، وإن لم يقصد العبد الذبح / عند القبر، لكن الشريعة سدت الذريعة، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأنه حينئذ يسجد لها الكفار، وإن كان المصلي للّه لم يقصد ذلك. وكذلك اتخاذ القبور مساجد قد نهى عنها وإن كان المصلي لا يصلي إلا للّه وقال: (ليس منا من تشبه بغيرنا)، وقال: (من تشبه بقوم فهو منهم). واللّه أعلم.
فأجاب: إن قصد الذهاب إلى هذا القبر للصلاة عنده، والدعاء به، والتمسح بالقبر، وتقبيله، ونحو ذلك مما نهى عنه، أو أن يعمل بشيء نهى اللّه عنه من الفواحش، والخمر، والزمر، أو التفرج على هؤلاء، ورؤية أهل المعاصي من غير إنكار، فهم عصاة للّه في هذا السفر، وأمرهم إلى اللّه تعإلى، ويرجي لهم بالغرق رحمة اللّه، واللّه أعلم.
هل في هذه الأمة أقوام صالحون غيبهم اللّه عن الناس لا يراهم إلا من أرادوا؟ ولو كانوا بين الناس فهم محجوبون بحالهم؟ وهل في جبل لبنان أربعين رجلا غائبين عن أعين الناظرين، كلما مات منهم واحد أخذوا من الناس واحدا غيره، يغيب معهم كما يغيبون؟ وكل أولئك تطوي بهم الأرض، ويحجون، ويسافرون ما مسيرته شهرا أو سنة في ساعة، ومنهم قوم يطيرون كالطيور، ويتحدثون عن المغيبات قبل أن تأتي، ويأكلون العظام والطين، ويجدونه طعاما وحلاوة وغير ذلك ؟ فأجاب: الحمد للّه رب العالمين، أما وجود أقوام يحتجبون عن الناس دائماً فهذا باطل، لم يكن لأحد من الأنبياء ولا الأولياء ولا السحرة، ولكن قد يحتجب الرجل بعض الأوقات عن بعض الناس، إما كرامة لولي، وإما على سبيل السحر. فإن هذه الأحوال منها ما هو حال رحماني، وهو كرامات أولياء اللّه المتبعين للكتاب والسنة، وهم المؤمنون المتقون. ومنه ما هو حال نفساني أو شيطاني، كما يحصل لبعض /الكفار أن يكاشف أحياناً، وكما يحصل لبعض الكهان أن تخبره الشياطين بأشياء. وأحوال أهل البدع هي من هذا الباب. ومن هؤلاء من تحمله الشياطين فتطير به في الهواء. ومنهم من يرقص في الهواء. ومنهم من يلبسه الشيطان فلا يحس بالضرب ولا بالنار إذا ألقي فيها، لكنها لا تكون عليه بردا أو سلاماً، فإن ذلك لا يكون إلا لأهل الأحوال الرحمانية وأهل الإشارات ـ التي هي فسادات، من اللاذن، والزعفران، وماء الورد، وغير ذلك ـ هم من هؤلاء. فجمهورهم أرباب محال بهتاني، وخواصهم لهم حال شيطاني، وليس فيهم ولي للّه، بل هم من إخوان الشياطين من جنس التتر. وليس في جبل لبنان ولا غيره أربعون رجلا يقيمون هناك، ولا هناك من يغيب عن أبصار الناس دائما، والحديث المروي في أن الأبدال أربعون رجلا حديث ضعيف؛ فإن أولياء اللّه المتقين يزيدون وينقصون بحسب كثرة الإيمان والتقوي، وبحسب قلة ذلك، كانوا في أول الإسلام أقل من أربعين، لما انتشر الإسلام كانوا أكثر من ذلك. وأما قطع المسافة البعيدة فهذا يكون لبعض الصالحين ويكون لبعض إخوان الشياطين، وليس هذا من أعظم الكرامات، بل الذي / يحج مع المسلمين أعظم ممن يحج في الهواء؛ ولهذا اجتمع الشيخ إبراهيم الجعبري ببعض من كان يحج في الهواء، فطلبوا منه أن يحج معهم فقال: هذا الحج لا يجزي عنكم حتى تحجوا كما يحج المسلمون. وكما حج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فوافقوه على ذلك، وقالوا ـ بعد قضاء الحج ـ : ما حججنا حجة أبرك من هذه الحجة، ذقنا فيها طعم عبادة اللّه وطاعته. وهذا يكون بعض الأوقات، ليس هذا للإنسان كل ما طلبه. وكذلك المكاشفات تقع بعض الأحيان من أولياء اللّه، وأحياناً من إخوان الشياطين. وهؤلاء الذين أحوالهم شيطانية قد يأكل أحدهم المآكل الخبيثة، حتى يأكل العذرة وغيرها من الخبائث بالحال الشيطاني، وهم مذمومون على هذا. فإن أولياء اللّه هم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. فمن أكل الخبائث كانت أحواله شيطانية. فإن الأحوال نتائج الأعمال. فالأكل من الطيبات والعمل الصالح يورث الأحوال الرحمانية، من المكاشفات، والتأثيرات التي يحبها اللّه ورسوله. وأكل الخبائث وعمل المنكرات يورث الأحوال الشيطانية التي يبغضها اللّه ورسوله، وخفراء التتر هم من هؤلاء. /وإذا اجتمعوا مع من له حال رحماني بطلت أحوالهم ، وهربت شياطينهم. وإنما يظهرون عند الكفار والجهال، كما يظهر أهل الإشارات عند التتر والأعراب والفلاحين ونحوهم من الجهال الذين لا يعرفون الكتاب والسنة. وأما إذا ظهر المحمديون أهل الكتاب والسنة فإن حال هؤلاء يبطل، واللّه أعلم.
فأجاب: الحمد للّه، هذه المسألة مما لا يحتاج إليها في شريعتنا. فإنما علينا أن نطيع الرسول فيما أمرنا به، ونقتدي به بعد إرساله إلينا. وأما ما كان قبل ذلك مثل تحنثه بغار حراء، وأمثال ذلك، فهذا ليس سنة مسنونة للأمة؛ فلهذا لم يكن أحد من الصحابة بعد الإسلام يذهب إلى غار حراء، ولا يتحري مثل ذلك؛ فإنه لا يشرع لنا بعد الإسلام أن نقصد غيران الجبال، ولا نتخلي فيها، بل يسن لنا العكوف بالمساجد سنة مسنونة لنا. وأما قصد التخلي في كهوف الجبال وغيرانها، والسفر إلى الجبل /للبركة، مثل جبل الطور وجبل حراء، وجبل يثرب، أو نحو ذلك، فهذا ليس بمشروع لنا، بل قد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). وقد كان صلى الله عليه وسلم قبل البعثة يحج، ويتصدق، ويحمل الكَلَّ، ويُقْرِي الضَّيْفَ، ويعين على نوائب الحق، ولم يكن على دين قومه المشركين، صلي اللّه عليه وعلى أصحابه وسلم تسليما كثيراً.
/وَقَــال: وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة، بل روي أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه، فهذا كما تقدم لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله؛ فـإنه ليس فيـه متابعتهم، لا في عمل عملوه، ولا قصد قصدوه، ومعلوم أن الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحل فيها؛ إما في سفره، وإما في مقامه؛ مثل طرقه في حجه وغزواته، ومنازلـه في أسفاره، ومثـل بيـوته التي كان يسكنها والبيوت التي كان يأتي إليها أحيانا من... فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم اتخاذ قبورهم مساجد مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم، ويستحب إتيان قبورهم للسلام عليهم، ومع هذا يحرم إتيانها للصلاة عندها واتخاذها مساجد. ومعلوم أن هذا إنما نهى عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، وأراد أن / تكون المساجد خالصة للّه تعإلى تبني لأجل عبادته فقط لا يشركه في ذلك مخلوق، فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراما، فكذلك إذا كان لأثر آخر، فإن الشرك في الموضعين حاصل. ولهذا كانت النصاري يبنون الكنائس على قبر النبي والرجل الصالح وعلى أثره وباسمه. وهـذا الذي خـاف عمـر ـ رضي اللّه عنه ـ أن يقـع فيه المسلمون وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم مـنع أمتـه مـنه، كما قال اللّه تعإلى: ولـو كـان هـذا مستحبـاً لكـان يستحب للصحابـة والتابعين أن يصـلوا فـي جميع حـجر أزواجه، وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره. ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد، ولم يفعل السلف شيئا من ذلك. ولم يشرع اللّه تعإلى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلى المسجد. ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر. فمشاعر الحج كعرفة ومـزدلفـة ومني /تقصـد بالذكر والدعاء والتكبير، لا الصـلاة، بخـلاف المساجـد، فـإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجـد والمشاعر وفيـها الصـلاة والنسـك، قـال تعإلى: فـإن الدين أصلـه متابعـة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقتـه بفعـل مـا أمـرنـا بـه وشـرعـه لنا وسـنه لنا، ونقتـدي بـه في أفعالـه التي شـرع لنا الاقتـداء بـه فيها، بخلاف ما كان من خصائصه. فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلا سَنَّ لنا أن نتأسي به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم. وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحاً كما فعله مباحاً، ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان، كما تقدم. وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبعه فيه؛ فإن فعله مباحا فعلناه مباحا، وإن فعله قربة فعلناه قربة. ومن جعله عبادة رأي أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به، ورأي أن في ذلك بركة لكونه مختصاً به نوع اختصاص.
/وَقَالَ ـ رحَمهُ اللّه : ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي المسلمين على غزو التتار وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهىي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي العسكر المصري إلى الشام، وتثبيت الشامي فيه. وقد جرت في ذلك فصول متعددة. وهذه المناقب أمور: أحدها: البركة فيه. ثبت ذلك بخمس آيات من كتاب اللّه تعإلى: قوله تعإلى في قصة موسي: فهذه خمس نصوص حيث ذكر اللّه أرض الشام في هجرة إبراهيم إليها، ومسري الرسول إليها، وانتقال بني إسرائيل إليها، ومملكة سليمان بها، ومسير سبأ إليها، وصفها بأنها الأرض التي باركنا فيها. وأيضا، ففيها الطور الذي كلم اللّه عليه موسي. والذي أقسم اللّه به في سورة [الطور] وفي [التين والزيتون وطور سينين] وفيها /المسجد الأقصي، وفيها مبعث أنبياء بني إسرائيل، وإليها هجرة إبراهيم، وإليها مسري نبينا، ومنها معراجه، وبها ملكه وعمود دينه، وكتابه، وطائفة منصورة من أمته، وإليها المحشر والمعاد، كما أن من مكة المبدأ. فمكة أم القري من تحتها دحيت الأرض، والشام إليها يحشر الناس، كما في قوله: ومن ذلك: أن بها طائفة منصورة إلى قيام الساعة التي ثبت فيها الحديث في الصحاح من حديث معاوية وغيره: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة). وفيهما عن معاذ بن جبل، قال: (وهم في الشام) وفي تاريخ البخاري مرفوعا قال: (وهم بدمشق)، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال أهل المغرب ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة). قال أحمد بن حنبل: أهل المغرب هم أهل الشام، وهم كما قال لوجهين: أحدهما: أن في سائر الحديث بيان أنهم أهل الشام. /الثاني: أن لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مدينته في [أهل المغرب] هم أهل الشام، ومن يغرب عنهم. كما أن لغتهم في أهل المشرق هم أهل نجد والعراق؛ فإن التغريب والتشريق من الأمور النسبية، فكل بلد له غرب قد يكون شرقا لغيره، وله شرق قد يكون غربا لغيره. فالاعتبار في كلام النبي صلى الله عليه وسلم بما كان غربا وشرقا له حيث تكلم بهذا الحديث وهي المدينة. ومن علم حساب الأرض كطولها وعرضها، علم أن حران والرقة وسيمسياط على سمت مكة، وأن الفرات وما على جانبيها بل أكثره على سمت المدينة، بينهما في الطول درجتين. فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة وما كان شرقيها فهو شرقي المدينة. فأخبر أن أهل الغرب لا يزالون ظاهرين، وأما أهل الشرق فقد يظهرون تارة ويغلبون أخري. وهكذا هو الواقع؛ فإن جيش الشام ما زال منصورا، وكان أهل المدينة يسمون [الأوزاعي] إمام أهل المغرب، ويسمون [الثوري] شرقياً، ومن أهل المشرق. ومن ذلك : أنها خيرة اللّه من الأرض. إن أهلها خيرة اللّه وخيار أهل الأرض، واستدل أبو داود في سننه على ذلك بحديثين: حديث عبد اللّه بن حَوَالة الأزدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستجندون / أجنادا، جندا بالشام، وجندا بإلىمن، وجندا بالعراق). فقال الخَوَإلى: يا رسول اللّه، اختر لي. قال: (عليك بالشام؛ فإنها خيرة اللّه من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده. فمن أبي فليلحق بيمنه، وليتق من غدره، فإن اللّه قد تكفل لي بالشام وأهله). وكان الخوإلى يقول: ومن تكفل اللّه به فلا ضعية عليه. ففي هذا الحديث مناقب أنها خيرة. وحديث عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقي في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم حيثما باتوا، وتقيل معهم حيثما قالوا). فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم؛ بخلاف من يأتي إليه أو يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام. وفي هذا الحديث بشري لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم تسليما، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد هجرة أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم يعدل لنا مهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإن الهجرة إلى مهاجره انقطعت بفتح مكة. ومن ذلك: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها في حديث الترمذي./ومن ذلك: أن اللّه قد تكفل بالشام وأهله، كما في حديث الخوإلى. ومن ذلك: أن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام. كما في الصحيح من حديث عبد اللّه بن عمر. ومن ذلك: أن عمود الكتاب والاسلام بالشام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت كأن عمود الكتاب أخذ من تحت رأسي فأتبعته بصري فذهب به إلى الشام). ومن ذلك أنها عقر دار المؤمنين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعقر دار المؤمنين الشام). ومن ذلك: أن منافقيها لا يغلبوا أمر مؤمنيها، كما رواه أحمد في المسند في حديث. وبهذا استدللت لقوم من قضاة القضاة وغيرهم في فتن قام فيها علينا قوم من أهل الفجور والبدع، الموصوفين بخصال المنافقين لما خوفونا منهم، فأخبرتهم بهذا الحديث، وأن منافقينا لا يغلبوا مؤمنينا. وقد ظهر مصداق هذه النصوص النبوية على أكمل الوجوه في جهادنا للتتار، وأظهر اللّه للمسلمين صدق ما وعدناهم به، وبركة ما أمرناهم به، وكان ذلك فتحا عظيما، ما رأي المسلمون مثله منذ خرجت مملكة التتار التي أذلت أهل الإسلام؛ فإنهم لم يهزموا ويغلبوا كما غلبوا /على باب دمشق في الغزوة الكبري، التي أنعم اللّه علينا فيها من النعم بما لا نحصيه؛ خصوصا وعموماً. والحمد للّه رب العالمين، حمدا كثيرا طيباً مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. آخر المجلد السابع والعشرين
|